لقد أحدثت وسائل الإعلام شرخاً في حائط الفصل الدراسي، بعـد أن احتلـت مكان
الوالدين والمدرسين في نقل العلم والمعرفة إلى الأفراد، فأصبح معظم التعليم يتم
خـارج الفصل الدراسي، وأصبحت الكمية الفائقة من المعلومات التـي تنقلهـا الصـحف
والمجـلات والأفلام والإذاعة والتلفزيون
في أيامنا هذه، تفوق بكثير كمية المعلومات التي ينقلهـا مـدرس الفصل، وهذا التحدي حطم احتكار الكتاب كمساعد أساسي
في العملية التعليمية . (فاخوري ,ص658)
ولعل الدور اللغوي لوسائل الإعلام بشكل عام هو الجانب الأخطر في حياة
أمتنا، ونخص بالذات دور وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وتأتي أهميتها من كونها
لا تخاطب شـريحة دون غيرها، ولا فرداً دون سواه، فكما يسمعها الخاصة، يسمعها
العامة.
وكلنا يعلم أن مصادر التنمية
اللغوية للأطفال متعددة، فهنـاك الأسـرة، والمحـيط الخـاص، والمدرسة والمجتمع
الكبير بكل قطاعاته وطبقاته وطوائفه، كما أن المادة المقـروءة بمختلـف أشكالها تعد
مصدراً مهماً في تنمية لغة الأطفال، هذا بالإضافية إلى وسائل الاتصال الحديثـة،
ووسائل الإعلام من إذاعة وتلفزيون وهذه المصادر – كما نلاحظ - ينضوي قسم منهـا
تحـت الاتصال الاجتماعي المباشر، وقسم آخر يأتي ضمن الاتصال الاجتماعي غير
المباشر.
ويعنينا من هذه المصادر القسم الثاني منها، الذي يتم فيه اكتساب اللغـة عـن
طريـق الأجهزة "حيث يلتقي الطفل عن طريقها بغيره، أو بفئة من أبناء قومـه،
ويسـمع حـوارهم، ويصغى لأحاديثهم أنّى طلب أو رغب، فيلتقط ذهنه، وتختزن ذاكرته من
تـراكيبهم، وألفـاظ لغتهم على قدر إصغائه إليهم، وبمقدار ما يمتلك من فطنة ونباهة
ومقدرة على الربط والتمييـز والحفظ، وعلى المحاكاة والتقليد، ثم على مقدار ما
يتمتع به المتحدثون أنفسـهم مـن فصـاحة وطلاقة في التفكير والتعبير، وما لديهم من
قدرة على التوصيل والتلقين. (المعتوق ,ص87 )
وقد كان المذياع أسبق من التلفاز ظهوراً واقتحاماً لحياتنا، أصبح من خلالها
ذا أثر عظيم في اكتساب اللغـة ومهاراتها السمعية ، وتنميـة مفرداتها وتراكيبها
وصيغها.
وتُرد أهمية المذياع في اكتساب
اللغة من خلال السماع ونحن نعلم أن اللغة
محاكاة، والمحاكاة تأتي من الأدنى إلى الأعلى.
وفي عام ١٩٨٠م رأى الدكتور عبد
العزيز شـرف أن الإذاعـة - وهـي صـحافة مسموعة- ستكون عظيمة الأثر في زيادة الثروة
اللغوية, وفي توحيد نطـق المفردات، وفي
التقريب بين اللهجات. وليس من المستبعد أن تـنجح فـي إحـلال الفصـحى المبسطة محل العامية السائدة" , ولا سيما
أنه لم يسـبق مـن قبـل أن اسـتطاعت الكلمـة المنطوقة أو المكتوبة في تاريخها
الطويل أن تبلغ هذه الأعداد البشرية التي تقرؤها أو تسمعها في وقت واحد، لقد بلغ
التواصل بين الناس في زمن الوسائل الجماهيرية الحديثة أقصى مـداه وأضخم
أبعاده.(شرف ,ص71 )
وقد جعلت الاذاعة المسموعة البيان
باللسان يبعث الحضـارة السمعية من جديد، حيث تعود الكلمات الإذاعية إلى أصـلها
كرمـوز صـوتية تنتقـل حـول العالم. (شرف ,ص 225 )
لذا فإن لغة الإذاعة، وهي اللغة المشتركة، أو اللغة العربية الفصـيحة ، بما
تتسم به من سرعة، ومباشرة، وعادية، ودافعية، أن تعمل بالتدريج على محو هـذا الفـرق
القائم بين الفصحى واللهجات العامية. (شرف ,ص 243)
وللاعلام المرئي الدور الخطير في
تثقيف الأطفال وإمتاعهم، وفي نشر اللغة وتنميتها لدى الاطفال المشاهدين والمتلقين
بتزويدهم بحصيلة وافرة من مفـردات اللغـة، وصـيغها، وتراكيبها. ومنذ أن اتسع
انتشاره، وخرج من دائرته الارستقراطية، فصغر حجمه، وقل ثمنه، وسهل حمله، غدا أخطر
من المذياع أثراً لاعتماده على حاستي السمع والبصر معاً، فلـم يعـد الطفل سامعاً
لما يقال، بل أصبح مشاهداً لمن يتحدث، وكيف يتحدث، وكيـف ينطـق، فغـدت العملية
أكثر تركيباً وتعقيداً، وأبعد أثراً في المتلقي.
إن الألفاظ وأساليب القول المختلفة تتـردد وتتكرر خلال التلفاز مقترنة في
الغالب بالصور الملونة، والمشاهد والحركات، أو الأصـوات المسموعة، والطرق الأخرى
الموحية المؤثرة، وبذلك تتجسد، وتبرز حية فـي إطـار عملـي فعلي جذاب، مما يجعلها
تعلق في الذهن، وتثبت في الذاكرة، وترسخ مدلولاتها أو معانيها فـي تصور المشاهد
والسامع والمنصت، ومما يزيد من أهمية هذا الجهاز وفاعلية دوره في تنميـة المهارة
اللغوية جنباً إلى جنب مع تنمية الحصيلة الثقافية، أنه مصدر متعة للكبـار
والصـغار، يشد إليه الناس على مختلف
طبقاتهم وأصنافهم وأعمـارهم وأذواقهـم ومسـتوياتهم العقليـة والثقافية . (المعتوق
,ص92 )
ويمثل التلفاز الأداة الرئيسة
لتعلـيم اللغـة العربية، وبخاصة لأولئك الذين لا يحسنون القراءة والكتابة. وقد أدى
انتشاره هناك إلى تناقص في استقطاب المستمعين، مما قلص من دور الإذاعة المسموعة في
تعميم اللغة العربية .(حسين ,ص 78)
ويرى بعض الباحثين أن لغة الإعلام
العربي يمكن أن تكون أداة للإصـلاح اللغـوي، ويمكن للإعلام العربي أن يقوم بدور
(حصان طروادة) لتخلـيص العربيـة مـن ازدواجيـة
الفصحى والعامية.(علي ,ص344 )
ولكن على الرغم من سلبيات الإذاعة
المرئية على الناشئة، إلاّ أنها والمذياع معاً أكثـر فاعلية في تنمية المهارات
اللغوية لدى الأطفال، وبخاصة في المرحلـة العمريـة الأولـى، إذا كانت هناك خطة
مدروسة لاستغلال هذين الجهازين في التنمية اللغوية لهذه الشريحة بخاصة، ولسائر
المتلقين بعامة، فليس العيب في التلفاز، بل العيب في استخدام هذه الوسيلة.
فيرى دي سوسير "أننا نتعلم
اللغة الأم بإصغائنا للآخرين، إذ أنها لا ترتسم في دماغنا إلاّ بعد تجارب عديدة،
وفضلاً عن كل ذلك، فإن الكلام هو الذي يطور اللغـة، والانطباعـات التي نستقبلها
عبر سماعنا الآخرين هي التي تغير عاداتنا الألسنية .(سوسير ,ص32)
المواقف العملية لتنمية مهارة الاستماع :
أولا : المعلم
إذاً السبيل إلى تنمية لغة الطفل العربية ومهاراتها هو بإحياء ظاهرة
السماع، فإذا لقن الطالب في مدرسته منذ سنته الأولى العربية الصحيحة، بواسطة
السماع من معلم مؤهل قادر، فـإن هـذا الطفل سرعان ما يؤدي اللغة نطقاً، وإدراكاً
بشكل سليم، كما هو يفعل ذلك بنجـاح إذ يسـمع مسلسل "الكرتون" باللغة
الفصحى، وهذا السماع لابد من أن يقترن بتدريب السـليقة، وتنشـيط الطبع، ثم تربية
النطق الصحيح، وتنمية التعبير السليم. ذلك هو المنهج البديل، الـذي يـرفض الطريقة
المتبعة في تعليم اللغة العربية في مدراسنا.
ثانيا : نوعية البرامج المتلفزة التي تستهدف الأطفال :
هناك برامج متلفزة موجهة للأطفال، تستخدم اللغة العربية الفصيحة، ولكننا لا
نعرف لأي مرحلة عمرية موجهة، ولا نجد تراكماً مدروساً للخبرة اللغوية، مما يجعل
هـذه الجهـود تذهب أدراج الرياح، وتظل دليلاً على حسن النوايا ليس إلاّ، ولا نعول
عليهـا فـي اكتسـاب الطفل للغته الأم، وما تقدمه أجهزة الإعلام العربية في هذا
الباب هو تبسيط لدورها .
نريد برامج متلفزة للأطفال تحدد
المرحلة العمرية التي تتوجه إليها، كما هو الحال في ألعاب الأطفال التي تصلنا من
الغرب والشرق، ومحدد عليها المرحلة العمرية التي تصلح لها، ونطالب بأن تتنامى
الخبرة اللغوية فيها وتتراكم، حتى نصل إلى المرحلة العمرية المتقدمة، ومثل هذه
البرامج ناجحة ومقدرة، شريطة أن تكون ضمن سلسلة جهـود مدروسـة، تعتمد التواصل
والتنامي، لا الانقطاع .
ثالثا : الأساليب والطرق المستخدمة في التعليم :
وليس معنى هذا أن وسائل الإعلام
هذه بمفردها كفيلة باكتسـاب الطفـل للغتـه الأم، فهناك دور الأسرة، ودور المدرسة
وغير ذلك، لكننا ندرك خطورة هذه الأجهـزة فـي حيـاة أطفالنا، وكيف غدت صلتهم بها
تصل حد الإدمان، فلم لا نستغل هذه العلاقة؟ فنقدم لهم علـى نحو مرحلي تدريجي قراءة
بعض النصوص القرآنية، أو نصوص من الحديث النبوي الشريف، وقراءة بعض النصوص الأدبية
الجذابة المتميزة بموسيقى عباراتها، وجـرس ألفاظها، وحكاية القصص القصيرة المشوقة
المثيرة، وتقديم دروس منظمة ترتبط بصـورة أو بأخرى بالمقررات الدراسية، وعرض
مسلسلات كالقصص والمغـامرات باللغـة الفصـحى المبسطة، أو كما يسمها البعض باللغة
المخففة، أي اللغة التي تكون وسطاً بين العامية المهذبـة والفصحى العالية، مع
مراعاة إدخال المفردات اللغوية الجديدة فيها بشكل تدريجي ومسـتمر .(قاسم ,ص41 )
وفي الختام :
أرى أن المهـارة والحذق في نطق اللغة العربية من جراء سماع أساليب النطق،
وأن ذلك يمكن أن يتم من غير علم بقوانينها. وهو ما يعرف بالحس اللغوي، أو التمكن
اللغوي التلقائي دون معرفـة القواعـد النظرية للغة. وهذا هو مفهوم التنمية اللغوية
، فهـو تغيـر تدريجي نحو الأفضل ضمن عملية مجتمعية واعية.
وهذا الطموح بحاجة إلى سياسة إعلامية عربية مشتركة، يـتم التنسـيق فيهـا
بـين المؤسسات الإعلامية ومجامع اللغة العربية، أي أن هذا عمل مؤسسي، يحتاج إلى
تشـريعات حكومية تدعمه.
المراجع :
1- بليبل ,نور الدين , الارتقاء بالعربية في وسائل الإعلام، ضمن سلسلة كتاب
الأمة،٢٠٠١ ,ط1 ،قطر ,ص28
2 – فاخوري , محمود , سلطان العربية في مضمار الإعلام، مجلـة مجمـع اللغـة
العربية بدمشق، المجلد ٧٤، ج٣، ص ٦٥٩-٦٥٨.
3- المعتوق , أحمد , الحصيلة اللغوية,
أهميتهـا – مصـادرها - وسـائل تنميتها، سلسلة عالم المعرفة، ع ٢١٢، أغسطس
١٩٩٦م، ص ٨٧.
4- شرف , عبد العزيز , المدخل إلى وسائل الإعلام، دار الكتاب المصري، ودار
الكتاب اللبناني، ١٩٨٠م، ص ٢٤٩.
5- حسين , قادري , دور وسائل الإعلام في انتشار اللغة العربية في الجزائـر،
ص٥٩ وما بعدها، ضمن أعمال مؤتمر المجلس الأعلى للغـة العربيـة بـالجزائر، (دور
وسائل الإعلام في نشر اللغة العربية وترقيتها)، ٢٠٠٤م.
6 – علي ,نبيل , الثقافة العربية
وعصر المعلومـات، سلسـلة عـالم المعرفـة، ع ٢٧٦ , الإصدار الثاني، الكويت ٢٠٠١، ص
٣٤٤.
7- دي سوسير , محاضرات في الألسنية
العامة، ترجمة يوسـف غـازي مجيـد النصر، ط ١٩٨٤م، دار نعمان للثقافة، بيروت،
ص ٣٢.
8-قاسم , رياض, قومية الفصحى والمجتمع: تحديات الحاضـر والمسـتقبل ، مجلـة
المستقبل العربي، ص ١٧، ع ١٨٥، تموز ١٩٩٤م، بيروت، ص ٤١.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق